لكن هذا كله لا يعنيني الآن.. إن ما يعنيني هو القارئ أو المستمع أو المشاهد، الذي قد يكون التبس عليه الأمر فيما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام السابقة في تصريحات لي حول موقف الإخوان المسلمين من العدو الصهيوني، وموقفهم من معاهدة السلام وكامب ديفيد، التي وقَّعتها مصر، وطريقة تعاملهم مع هذه المعاهدة المشئومة إذا حدث تداول للسلطة في مصر بطريقة ديمقراطية.
أولاً.. في الوقت الذي كانت فيه التصريحات الرسمية تعلن في ثلاثينيات القرن الماضي (العشرين) أن حكومة مصر معنية فقط بشئون مصر، كانت جهود الإخوان المسلمين تحشد المعونات لثورة القسام في فلسطين التي اندلعت ضد العصابات الصهيونية وضد الهجرة اليهودية في عام 1936؛ ردًّا على تصريح لرئيس الحكومة يقول: أنا رئيس حكومة مصر ولست رئيس حكومة فلسطين.
ثانيًا.. عندما ظهرت النوايا الدولية بدعم جهود العصابات الصهيونية لإقامة كيان صهيوني يغتضب معظم أراضي فلسطين، وظهر عجز الحكومات العربية عن مقاومة هذه العصابات، وظهر ضعف الجهود الشعبية الفلسطينية عن التصدي لهذه العصابات، كان الإخوان المسلمون أسبق الجميع إلى حشد كتائب الفدائيين لمقاومة هذه العصابات، وسطَّر الإخوان من مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق أروع صفحات الجهاد ضد الصهاينة، ورَوَوا الأرض المقدسة بدمائهم الطاهرة، وكانت حكومات الخيانة تقودهم من ساحات الجهاد والمعارك إلى غياهب السجون والمعتقلات.
ثالثًا.. عندما انتهت الحرب الرسمية إلى الوضع المأساوي الراهن، وانهزمت الجيوش الرسمية العربية، وأُعلن قيام الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين كان ثمن بقاء هذا الكيان على قيد الحياة، واستمراره هو قمع الإخون المسملين في مصر ثم في بقية الدول العربية؛ لأنهم العقبة الكؤود في طريق استقرار الاغتصاب والظلم والعدوان على الحقوق العربية والإسلامية والفلسطينية، وكان ضريبة ذلك هو دعم الحكومات الاستبدادية الديكتاتورية من مختلف الاتجاهات الفكرية، شريطة أن تستبد بالسلطة، وأن تستعبد الشعوب، وأن تخنق الحريات، وأن تصادر إرادة الشعوب، وعرفت المنطقة العربية الثورات والانقلابات وأعاصير السياسة والاقتصاد، ولكن ذلك كله صبَّ في مصلحة العد الصهيوني.
ودفع الإخوان المسلمون ثمن تصدِّيهم للفساد والاستبداد واغتصاب أرض فلسطين من دمائهم على أعواد المشانق وتحت سياط الجلادين ومن حرياتم سنوات طوال في غياهب السجون في مصر والعراق وسوريا، ومن أقواتهم وأقوات أولادهم عشرات السنين في مصادرة لثرواتهم وأعمالهم؛ مما يعرفه القاصي والداني، ولا يحتاج إلى تذكير، وصبر الإخوان على ذلك كله صبر المجاهدين بفضل الله تعالى وتثبيته لهم ولأسرهم، وأصبح واضحًا أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين استعادة الشعوب لحرياتها وإقرار الديمقراطية وبين التصدي للمشروع الصهيوني.
رابعًا.. في الوقت الذي لاح للبعض من القيادات الفلسطينية سراب السلام، وتاه البعض في تيه المفاوضات، بغض النظر عن الملابسات والضغوط والإغراءات والتهديدات، كانت بوصلة الإخوان واضحةً، واندلعت انتفاضات الشعب الفلسطيني الأولى عام 1987، والثانية في انتفاضة الأقصى، وكان الإخوان المسلمون في القلب منها في فلسطين وأكبر المحتضنين لها في خارج فلسطين، وانكشف للجميع حجم الخداع الذي مارسته الإدارة الأمريكية التي ادَّعت رعاية عملية السلام، وحجم الانحياز الذي وقفته الإدارات الأمريكية المتتالية للعدو الصهيوني، كما اتضح بجلاء نوايا العدو الصهيوني في ابتلاع الأراضي الفلسطينية وفرض هيمنته على المنطقة كلها اقتصاديًّا وسياسيًّا.
وكان الإخوان المسلمون أكبر القوى المعارضة لاتفاقيات السلام من كامب ديفيد الأولى وديفيد الثانية مرورًا بأوسلو ووادي عربة وغيرها.
خامسًا.. إن ثبات موقف الإخوان المسلمين طوال هذه العقود لا يمكن أن يكون محلَّ تشكُّك، ولا يمكن أن يكون مجالاً للمزايدة، وهم في ذلك كله لا يبتغون إلا وجه الله تعالى، ولا يمنُّون على أحد، بل يقومون بواجبهم الشرعي الذي يمليه عليهم إيمانهم بالله تعالى، والذي يفرض عليهم الجهاد في سبيل الدين والعرض والأرض والمال ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)﴾ (النساء)، وقوله تعالى: ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 191).
سادسًا.. عندما يقول الإخوان إن التداول على السلطة بطريقة ديمقراطية في مصر إن حدث يفرض على الحكومات المتتابعة العمل بقاعدة الوفاء بالمعاهدات والالتزامات السابقة؛ فهم لا يخترعون قولاً، ولكنهم يقررون القواعد الدولية الثابتة في التعامل مع المعاهدات والاتفاقيات، فلا يمكن لحكومة تالية في أن تَشطُبَ بجرة قلم أو بقرار إداري حكومي معاهداتٍ سابقةً على توليها السلطة، وعليها أن تحترم هذه الاتفاقيات حتى يتم التعامل معها بطريقة دستورية والآليات الدستورية المقررة هي: إعادة النظر في هذه المعاهدات بحسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية والأمن القومي، وعرضها على البرلمان المنتخب لإلغائها أو تعديلها أو تجميدها، إذا رأت فيها خطرًا على الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد، ثم عرضها على استفتاء شعبي إذا تقرر إلغاؤها فيكون الشعب هو صاحب القرار وليست الحكومة التي تمثِّل فصيلاً سياسيًّا منتخبًا بأغلبية شعبية؛ فهو الذي سيتحمل تبعات إلغاء المعاهدات أو إقرارها، وهذا ما نراه أمامنا في الشعوب الحرة، فقد رفض الشعب الفرنسي معاهدة دستور أوروبا الموحد بفارق 1% فقط، وانتهت أوروبا إلى إعادة النظر في الدستور بسبب معارضة بلدين أو ثلاثة للمعاهدة.
سابعًا.. إن ادعاء وجود غزل خفيٍّ بين الإخوان والإدارة الأمريكية ثبت للجميع كذبه، وأنه أوهام في نفوس الذين لا يجدون تأييدًا شعبيًّا، ويتصورون إن وصول السلطة لا يمر إلا عبر البوابة الأمريكية أو الصهيونية، والإخوان المسلمون يعتمدون- بعد تأييد الله لهم- على ثقة الشعب لهم وبرجالهم وقدراتهم على إدارة الشأن العام دون إفراط أو تفريط ودون خداع أو تهويمات، ودون شعارات أو إثارة، وهو ما ثبت لفئات الشعب المختلفة في النقابات والاتحادات وكافة المجالات التي تولى فيها رجال الإخوان وشبابهم مسئولية ما.
وإن ما يتمتع به الإخوان من ثقة تعكس شعبيتهم الكبيرة ليس مجرد موقف سياسي ثابت أو عداء للمشروع الصهيوني أو معارضة للسياسات الأمريكية، بل هو أكبر من ذلك كله، هو منهجهم الإسلامي الوسطي المعتدل، وبرامجهم الأصلانية الواقعية، ورجالهم الصادقون الثابتون على المبدأ.
وأخيرًا.. أشكر كل الأحباب والأصدقاء الذين بادروا بتهنئتي، وأقدِّم للجميع خالص المودة والتقدير، كما أعذر كل الذين التبس عليهم الأمر الأخير، فبادروا بالاتصال استيضاحًا للحقائق، وأقول للجميع: ثقوا في الله تعالى، وثقوا في صلابة موقف الإخوان المسلمين، وثقوا في قوة وترابط الصف الإخواني الملتف حول جماعته وقيادته، وأخص الرافضين للمشروع الصهيوني بكلمة، وأنبههم أن واجب الوقت هو الحذَر من تفتيت الجبهة المناوئة للمشروع الصهيوني الأمريكي بمزايدات أو تنافس غير محمود.
وأعيد تكرار موقفي الثابت المنبثق من موقف الإخوان المسلمين، والذي تعلمته وتربيت عليه في مدرستهم ضد المشروع الصهيوني وضد الهيمنة الأمريكية ومع الحرية والديمقراطية في ظلال الإسلام العظيم.
------------------------------------------------------------
مقال د/عصام العريان نقلا عن موقع إخوان أون لاين
مقال د/عصام العريان نقلا عن موقع إخوان أون لاين